الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
والتصغير للتعظيم، ومعلوم أن قريشًا موصوفون بهذه الصفات لأنها تلي أمر الأمة، فإن الأئمة من قريش.وثانيها: أنه مأخوذ من القرش وهو الكسب لأنهم كانوا كاسبين بتجاراتهم وضربهم في البلاد.وثالثها: قال الليث: كانوا متفرقين في غير الحرم، فجمعهم قصي بن كلاب في الحرم حتى اتخذوها مسكنًا، فسموا قريشًا لأن التقرش هو التجمع، يقال: تقرش القوماذا اجتمعوا، ولذلك سمي قصي مجمعًا، قال الشاعر: ورابعها: أنهم كانوا يسدون خلة محاويج الحاج، فسموا بذلك قريشًا، لأن القرش التفتيش قال ابن حرة: قوله تعالى: {رِحْلَةَ الشتاء والصيف} فيه مسائل:المسألة الأولى:قال الليث: الرحلة اسم الارتحال من القول للمسير، وفي المراد من هذه الرحلة قولان:الأول: وهو المشهور، قال المفسرون: كانت لقريش رحلتان رحلة بالشتاء إلى اليمن لأن اليمن أدفأ وبالصيف إلى الشام، وذكر عطاء عن ابن عباس أن السبب في ذلك هو أن قريشًا إذا أصاب واحدًا منهم مخمصة خرج هو وعياله إلى موضع وضربوا على أنفس خباء حتى يموتوا، إلى أن جاء هاشم بن عبد مناف، وكان سيد قومه، وكان له ابن يقال له: أسد، وكان له ترب من بني مخزوم يحبه ويلعب معه فشكا إليه الضرر والمجاعة فدخل أسد على أمه يبكي فأرسلت إلى أولئك بدقيق وشحم فعاشوا فيه أيامًا، ثم أتى ترب أسد إليه مرة أخرى وشكا إليه من الجوع فقام هاشم خطيبًا في قريش، فقال: إنكم أجدبتم جدبًا تقلون فيه وتذلون، وأنتم أهل حرم الله وأشراف ولد آدم والناس لكم تبع قالوا: نحن تبع لك فليس عليك منا خلاف فجمع كل بني أب على الرحلتين في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشام للتجارات، فما ربح الغني قسمه بينه وبين الفقير حتى كان فقيرهم كغنيهم، فجاء الإسلام وهم على ذلك، فلم يكن في العرب بنو أب أكثر مالًا ولا أعز من قريش، قال الشاعر فيهم: واعلم أن وجه النعمة والمنة فيه أنه لو تم لأصحاب الفيل ما أرادوا، لترك أهل الأقطار تعظيمهم وأيضًا لتفرقوا وصار حالهم كحال اليهود المذكور في قوله: {وقطعناهم فِي الأرض أُمَمًا} [الأعراف: 168] واجتماع القبيلة الواحدة في مكان واحد أدخل في النعمة من أن يكون الاجتماع من قبائل شتى، ونبه تعالى أن من شرط السفر المؤانسة والألفة، ومنه قوله تعالى: {وَلاَ جِدَالَ فِي الحج} [الحج: 197] والسفر أحوج إلى مكارم الأخلاق من الإقامة القول.الثاني: أن المراد، رحلة الناس إلى أهل مكة فرحلة الشتاء والصيف عمرة رجب وحج ذي الحجة لأنه كان أحدهما شتاء والآخر صيفًا وموسم منافع مكة يكون بهما، ولو كان يتم لأصحاب الفيل ما أرادوا لتعطلت هذه المنفعة.المسألة الثانية:نصب الرحل بلإيلافهم مفعولًا به، وأراد رحلتي الشتاء والصيف، فأفرد لأمن الإلباس كقوله: كلوا في بعض بطنكم، وقيل: معناه رحلة الشتاء ورحلة الصيف، وقرئ {رحلة} بضم الراء وهي الجهة.{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3)}قوله تعالى: {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت} اعلم أن الإنعام على قسمين.أحدهما: دفع الضرر.والثاني: جلب النفع والأول أهم وأقدم، ولذلك قالوا: دفع الضرر عن النفس واجب أما جلب النفع فإنه غير واجب، فلهذا السبب بين تعالى نعمة دفع الضرر في سورة الفيل ونعمة جلب النفع في هذه السورة، ولما تقرر أن الإنعام لابد وأن يقابل بالشكر والعبودية، لا جرم أتبع ذكر النعمة بطلب العبودية فقال: {فَلْيَعْبُدُواْ} وههنا مسائل:المسألة الأولى:ذكرنا أن العبادة هي التذلل والخضوع للمعبود على غاية ما يكون.ثم قال بعضهم: أراد فليوحدوا رب هذا البيت لأنه هو الذي حفظ البيت دون الأوثان، ولأن التوحيد مفتاح العبادات، ومنهم من قال: المراد العبادات المتعلقة بأعمال الجوارح ثم ذكر كل قسم من أقسام العبادات، والأولى حمله على الكل لأن اللفظ متناول للكل إلا ما أخرجه الدليل، وفي الآية وجه آخر، وهو أن يكون معنى فليعبدوا أي فليتركوا رحلة الشتاء والصيف وليشتغلوا بعبادة رب هذا البيت فإنه يطعمهم من جوع ويؤمنهم من خوف، ولعل تخصيص لفظ الرب تقرير لما قالوه لأبرهة: إن للبيت ربًا سيحفظه، ولم يعولوا في ذلك على الأصنام فلزمهم لإقرارهم أن لا يعبدوا سواه، كأنه يقول: لما عولتم في الحفظ على فاصرفوا العبادة والخدمة إلى.المسألة الثانية:الإشارة إلى البيت في هذا النظم تفيد التعظيم فإنه سبحانه تارة أضاف العبد إلى نفسه فيقول: {يا عبادي} [العنكبوت: 56] وتارة يضيف نفسه إلى العبد فيقول: {وإلهكم} [البقرة: 163] كذا في البيت تارة يضيف نفسه إلى البيت وهو قوله: {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت} وتارة يضيف البيت إلى نفسه فيقول: {طَهّرَا بَيْتِىَ} [البقرة: 125]. ثم قال تعالى: {الذى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ} وفي هذه الإطعام وجوه:أحدها: أنه تعالى لما آمنهم بالحرم حتى لا يتعرض لهم في رحلتيهم كان ذلك سبب إطعامهم بعدما كانوا فيه من الجوع ثانيها: قال مقاتل: شق عليهم الذهاب إلى اليمن والشام في الشتاء والصيف لطلب الرزق، فقذف الله تعالى في قلوب الحبشة أن يحملوا الطعام في السفن إلى مكة فحملوه، وجعل أهل مكة يخرجون إليهم بالإبل والخمر، ويشترون طعامهم من جدة على مسيرة ليلتين وتتابع ذلك، فكفاهم الله مؤونة الرحلتين ثالثها: قال الكلبي: هذه الآية معناها أنهم لما كذبوا محمدًا صلى الله عليه وسلم دعا عليهم، فقال: «اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف» فاشتد عليهم القحط وأصابهم الجهد فقالوا: يا محمد ادع الله فإنا مؤمنون، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخصبت البلاد وأخصب أهل مكة بعد القحط، فذاك قوله: {أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ}.ثم في الآية سؤالات:السؤال الأول:العبادة إنما وجبت لأنه تعالى أعطى أصول النعم، والإطعام ليس من أصول النعم، فلما علل وجوب العبادة بالإطعام؟ والجواب: من وجوه:أحدها: أنه تعالى لما ذكر إنعامه عليهم بحبس الفيل وإرسال الطير وإهلاك الحبشة، وبين أنه تعالى فعل ذلك لإيلافهم، ثم أمرهم بالعبادة، فكان السائل يقول: لكن نحن محتاجون إلى كسب الطعام والذب عن النفس، فلو اشتغلنا بالعبادة فمن ذا الذي أيطعمنا، فقال: الذي أطعمهم من جوع، قبل أن يعبدوه، ألا يطعمهم إذا!.وثانيها: أنه تعالى بعد أن أعطى العبد أصول النعم أساء العبد إليه، ثم إنه يطعمهم مع ذلك، فكأنه تعالى يقول: إذا لم تستح من أصول النعم ألا تستحي من إحساني إليك بعد إساءتك.وثالثها: إنما ذكر الإنعام، لأن البهيمة تطيع من يعلفها، فكأنه تعالى يقول: لست دون البهيمة.السؤال الثاني:أليس أنه جعل الدنيا ملكًا لنا بقوله: {خلق لَكُم مَّا في الأرض جَمِيعًا} [البقرة: 29] فكيف تحسن المنة علينا بأن أعطانا ملكنا؟الجواب: أنظر في الأشياء التي لابد منها قبل الأكل حتى يتم الطعام ويتهيأ، وفي الأشياء التي لابد منها بعد الأكل حتى يتم الانتفاع بالطعام المأكول، فإنك تعلم أنه لابد من الأفلاك والكواكب، ولابد من العناصر الأربعة حتى يتم ذلك الطعام، ولابد من جملة الأعضاء على اختلاف أشكالها وصورها حتى يتم الانتفاع بالطعام، وحينئذ تعلم أن الإطعام يناسب الأمر بالطاعة والعبادة.السؤال الثالث:المنة بالإطعام لا تليق بمن له شيء من الكرم، فكيف بأكرم الأكرمين؟الجواب: ليس الغرض منه المنة، بل الإرشاد إلى الأصلح، لأنه ليس المقصود من الأكل تقوية الشهوة المانعة عن الطاعة، بل تقوية البنية على أداء الطاعات، فكأن المقصود من الأمر بالعبادة ذلك.السؤال الرابع:ما الفائدة في قوله: {مِن جُوعٍ}؟الجواب: فيه فوائد أحدها: التنبيه على أن أمر الجوع شديد، ومنه قوله تعالى: {وَهُوَ الذي يُنَزّلُ الغيث مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ} [الشورى: 28] وقوله صلى الله عليه وسلم: «من أصبح آمنًا في سربه» الحديث.وثانيها: تذكيرهم الحالة الأولى الرديئة المؤلمة وهي الجوع حتى يعرفوا قدر النعمة الحاضرة.وثالثها: التنبيه على أن خير الطعام ما سد الجوعة، لأنه لم يقل: وأشبعهم لأن الطعام يزيل الجوع، أما الإشباع فإنه يورث البطنة.أما قوله تعالى: {وآمنهم من خوف} ففي تفسيره وجوه:أحدها: أنهم كانوا يسافرون آمنين لا يتعرض لهم أحد، ولا يغير عليهم أحد لا في سفرهم، ولا في حضرهم وكان غيرهم لا يأمنون من الغارة في السفر والحضر، وهذا معنى قوله: {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا ءامِنًا} [العنكبوت: 67]ثانيها: أنه آمنهم من زحمة أصحاب الفيل.وثالثها: قال الضحاك والربيع: وآمنهم من خوف الجزام، فلا يصيبهم ببلدتهم الجذام.ورابعها: آمنهم من خوف أن تكون الخلافة في غيرهم.وخامسها: آمنهم بالإسلام، فقد كانوا في الكفر يتفكرون، فيعلمون أن الدين الذي هم عليه ليس بشيء، إلا أنهم ما كانوا يعرفون الدين الذي يجب على العاقل أن يتمسك به وسادسها: أطعمهم من جوع الجهل بطعام الوحي، وآمنهم من خوف الضلال ببيان الهدى، كأنه تعالى يقول: يا أهل مكة كنتم قبل مبعث محمد تسمون جهال العرب وأجلافهم، ومن كان ينازعكم كانوا يسمون أهل الكتاب، ثم أنزلت الوحي على نبيكم، وعلمتكم الكتاب والحكمة حتى صرتم الآن تسمون أهل العلم والقرآن، وأولئك يسمون جهال اليهود والنصارى، ثم إطعام الطعام الذي يكون غذاء الجسد يوجب الشكر، فإطعام الطعام الذي هو غذاء الروح، ألا يكون موجبًا للشكر! وفي الآية سؤالات:السؤال الأول:لم لم يقل: عن جوع وعن خوف؟.قلنا: لأن معنى عن أنه جعل الجوع بعيدًا عنهم، وهذا يقتضي أن يكون ذلك التبعيد مسبوقًا بمقاساة الجوع زمانًا، ثم يصرفه عنه، و(من) لا تقتضي ذلك، بل معناه أنهم عندما يجوعون يطعمون، وحين ما يخافون يؤمنون.السؤال الثاني:لم قال: من جوع، من خوف على سبيل التنكير؟الجواب: المراد من التنكير التعظيم.أما الجوع فلما روينا: أنه أصابتهم شدة حتى أكلوا الجيف والعظام المحرقة.وأما الخوف، فهو الخوف الشديد الحاصل من أصحاب الفيل، ويحتمل أن يكون المراد من التنكير التحقير، يكون المعنى أنه تعالى لما لم يجوز لغاية كرمه إبقاءهم في ذلك الجوع القليل والخوف القليل، فكيف يجوز في كرمه لو عبدوه أن يهمل أمرهم، ويحتمل أن يكون المراد أنه: أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ دون جوع: وآمنهم من خوف دون خوف، ليكون الجوع الثاني، والخوف الثاني مذكرًا ما كانوا فيه أولًا من أنواع الجوع والخوف، حتى يكونوا شاكرين من وجه، وصابرين من وجه آخر، فيستحقوا ثواب الخصلتين.السؤال الثالث:أنه تعالى إنما أطعمهم وآمنهم إجابة لدعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام أما في الإطعام فهو قوله: {وارزق أَهْلَهُ} [البقرة: 126] وأما الأمان فهو قوله: {اجعل هذا البلد امِنًا} [إبراهيم: 35] وإذا كان كذلك كان ذلك منة على إبراهيم عليه السلام، فكيف جعله منة على أولئك الحاضرين؟ والجواب: أن الله تعالى لما قال: {إِنّى جاعلك لِلنَّاسِ أماما} قال إبراهيم: {وَمِن ذُرّيَتِى} فقال الله تعالى: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124] فنادى إبراهيم بهذا الأدب، فحين قال: {رَبّ اجعل هذا البلد امِنًا وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات} قيده بقوله: {مَنْ ءامَنَ بالله} فقال الله: لا حاجة إلى هذا التقيد، بل ومن كفر فأمتعه قليلًا، فكأنه تعالى قال: أما نعمة الأمان فهي دينية فلا تحصل إلا لمن كان تقيًا، وأما نعمة الدنيا فهي تصل إلى البر والفاجر والصالح والطالح، وإن كان كذلك كان إطعام الكافر من الجوع، وأمانه من الخوف إنعامًا من الله ابتداء عليه لا بدعوة إبراهيم، فزال السؤال.والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. اهـ.
|